منتصف شهر أغسطس ............،
منتصف النهار..............،
منتصف الطريق............،
كان الجو شديد الحرارة، و لكن ليس بقدر الحرارة التي كانت تحرق قلبي، الذي كشفت سره أنفاسي الملتهبة.
أمام الطريق السريع، وقفت أنتظر بضجر شديد، كانت السيارات تسير بسرعتها الجنونية، نحو مصير مجهول، و تبادرت في عقلي أسئلة عقيمة: إلى أين ؟ هل ستصل إلى وجهتها المنشودة؟ أم أن القدر سيختصر مسافتها بعد حين؟
و دون وعي، هربت ابتسامة حزينة من بين شفتي .... سجنتها طويلا
الآن علي أن أجتاز هذا الطريق، علي أن أكسر صوت أزيز السيارات المتتابعة مثلما تعودت.
قبل ثلاثة أسابيع من اليوم و طيلة السنوات الثلاث قبل أن ............ كنت اختار الوقت المناسب قبل اجتيازه كان بالنسبة إلي كلعبة اللصوص و رجال الشرطة، لطالما تخيلت أن تلك السيارات هي رجال شرطة و أنا لصة متمرسة، أحسن الإفلات بعد أن أسرق هيبة السيارات المغرورة المفتونة بسرعتها.
تعبت من هذا الروتين القاتل، سأغيره الآن..... عوض الوقت المناسب، سأختار السيارة المناسبة قبل أن أجتازه، و لأضفي إثارة أكثر سأجتازه بعيون مغلقة ...... نعم مغلقة، فما عدت أخشاك كالسابق أيها الـ.........، بل أصبحت أنشد حبك الجافي، علك تحن علي بحضنك البارد، فهذا ما أحتاجه الآن، حضن بارد يطفئ النار المتأججة في صدري.
و لم يطل انتظاري طويلا، ها هي السيارة المناسبة آتية من بعيد، حافلة ركاب تجرح طول الطريق بسرعتها الجنونية، الآن .... حان الوقت ............ أغمضت عيناي، و ركضت إلى الأمام مباشرة، ..... فتفاجأت به يركض أمامي، تماما كأيام الطفولة............
كان يركض كغزال شرد عن سربه، ليضرب بقانون المجموعة عرض الحائط،، التفت بابتسامته الجميلة الآسرة : هيا ... حاولي الإمساك بي أيتها السلحفاة........
لطالما تمنيت أن أمسك به،... يا إلهي كم كان سريعا أيام الطفولة، حين كنا نلعب سويا لعبة " أمسك بي إن استطعت " ، كم كنت أتمنى أن أمسك به.
و لكن اليوم بالذات علي أن أمسك به، علي ذلك.... و ركضت خلفه بإصرار و أنا أصرخ : سأمسك بك، سأمسك بك .....
ركضت خلفه، كما يركض الضاري الجائع خلف الطريدة، أقسم أني ركضت كما لم أركض من قبل، ركضت و أنا أمد يدي خلفه للإمساك به، و لامست أناملي قميصه المفضل لديه، فلاح الأمل أمامي على أني سأمسك به....
و فجأة سمعت صوت بوق الحافلة يتصاعد ممزوجا بأصوات و صرخات مخيفة : أن حاذري ...............
أحسست حينها و كأني إحدى بطلات المثولوجيات الإغريقية القديمة، و حاولت أن ألتفت للأصوات ........ فصرخ هو بي: لا تلتفتي ... أركضي خلفي ..... فقط أركضي.
فالتفت إليه فإذا به قد اختفى من أمامي ..... يا إلهي أين هو ؟ أين رحل ؟
و فتحت أعيني لأجد نفسي على الجهة المقابلة من الطريق.........
لقد اجتزته، اجتزت الطريق السريع ... دون أن أمسك به، و دون أن تمسك بي تلك الحافلة .........
عدت إلى منزلي المسكون بأشباح الماضي الجميل، كان السكون يخيم على أرجاءه بشكل مخيف، أحسست بالوحشة و أنا في منزلي، يا إلهي ......... أين سأجد السكينة إن لم أجدها في منزل شهد أول خطواتي في هذا الزمن الكريه.
و لمحت أمي، جالسة في ركن ركين، حاضرة غائبة، حية ميتة، كانت جالسة كطفل يتيم، ينتظر أن تحنو عليه يد فتنفض عنه غبار الحزن، اقتربت منها ... ... ... و جثوت أمامها على ركبتي :
سامحيني يــا أمي، لم أستطع الإمساك به، لقد كان سريعا ...... سريعا جدا...... كعادته
نظرت إلي بعيون دامعة و ابتسامة شاحبة :
لا عليك، أنه بين أحضاني و كشفت عن صورة بين يديها، كانت صورته الأخيرة قبل أن يحتضنه الموت ...........